تقرير:يوسف الكعبي
في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الكليات العسكرية مصانع للقادة والنخب الوطنية، تتحول التجربة العسكرية في العراق إلى اختبار قاسٍ يتجاوز حدود المعقول، ويدخل في دائرة الانتهاك المنهجي لحقوق الطلبة العسكريين. فالتدريبات التي يُفترض أن تُبنى على الانضباط والتطوير الذاتي، أصبحت في بعض الحالات أداة للعقاب الجسدي والنفسي، وسط غياب للرقابة والمحاسبة.
الواقع داخل الأكاديمية العسكرية العراقية:
تشير الشهادات والتقارير إلى أن بعض الطلاب، خصوصاً في الكلية العسكرية الأولى ببغداد، يتعرضون لمعاملة قاسية تتضمن تدريبات شاقة دون أي اعتبارات صحية أو مناخية. فقد تم تسجيل وفاة طالبين خلال الأيام الماضية، ونُقل ما لا يقل عن 7 إلى 9 طلاب إلى المستشفى جراء حالات إعياء شديد وضربات شمس ناجمة عن التدريب تحت درجات حرارة تجاوزت 45 درجة مئوية، في ظل غياب معدات الوقاية أو مراعاة الفروقات الجسدية بين الطلاب.
الضرب والإهانات... أدوات “تأديب” ممنهجة:
لا تقف "الصعوبة" في التدريب عند حدها المقبول عسكرياً، بل تتعداها لتصل إلى ممارسات مهينة مثل:
العقوبات البدنية المفرطة (ركض إجباري لساعات، الوقوف تحت الشمس الحارقة، الحرمان من النوم والطعام).
استخدام الضرب المباشر من قبل الضباط كوسيلة لفرض الانضباط.
الإهانات العلنية أمام الزملاء بهدف "كسر النفسية" حسب ما يدّعي بعض المدربين.
هذه الممارسات لا تخلق ضباطاً أقوياء، بل تولّد كراهية مبكرة للمؤسسة العسكرية، وتؤدي إلى انسحاب عدد من الطلاب من الدورات، وسط إشاعات بأن الغاية الخفية هي "تفريغ المقاعد" ليحلّ محلهم طلاب آخرون محسوبون على جهات أو علاقات نافذة.
هل هذه ممارسات طبيعية في الكليات العسكرية؟
الصرامة والضغط النفسي جزء لا يتجزأ من التدريب العسكري في معظم دول العالم، لكن الأسلوب يختلف:
في الولايات المتحدة (West Point): يُمنع استخدام الضرب أو الإذلال، ويُعتمد على بناء الانضباط الذاتي من خلال أنظمة صارمة ومراقبة دقيقة.
في بريطانيا (Sandhurst): يُركز على القيادة عبر القدوة والتقييم الشخصي وليس عبر الإهانة أو الإيذاء الجسدي.
في دول عربية مثل مصر والأردن: توجد تدريبات شاقة، لكن ضمن شروط صحية واضحة وتحت رقابة صارمة، مع محاسبة أي تجاوز جسدي.
الأثر النفسي والجسدي على الطالب العسكري:
يتعرض الطالب في هذه البيئة إلى ضغط نفسي كبير، يبدأ بالإجهاد الجسدي ولا ينتهي بالتهديد والعقوبات التعسفية، ما ينعكس سلباً على شخصيته العسكرية لاحقاً. ومن أبرز الأعراض:
فقدان الثقة بالنفس والانتماء.
الانهيار النفسي أو العصبي.
الإحساس بالإذلال وعدم العدالة، وقد يصل إلى التفكير بالانسحاب أو إيذاء النفس.
الغايات غير المعلنة:
وفقاً لشهادات طلاب سابقين، فإن القسوة الزائدة قد تكون وسيلة لإجبار بعض الطلاب على الانسحاب، تمهيداً لقبول طلبة آخرين عبر "المعرفة" أو "الواسطة"، مما يقوّض مبدأ تكافؤ الفرص ويزرع الحقد داخل المؤسسة العسكرية منذ بداياتها.
ماذا بعد؟ توصيات عاجلة:
1. فتح لجنة تحقيق عليا لمراجعة جميع حالات الوفاة والإصابات الخطيرة.
2. إعادة هيكلة برامج التدريب بما يراعي الظروف المناخية والإنسانية.
3. سن قوانين تحظر استخدام العنف كأسلوب انضباطي، وتطبيق نظام شكاوى آمن وفعّال.
4. تعزيز الرقابة الطبية والنفسية خلال فترات التدريب، وتوفير دعم مستمر للطلاب.
5. إدخال التربية القيادية والحقوقية ضمن المناهج لضمان توازن القوة مع المسؤولية.
إن المؤسسة العسكرية لا تبنى بالقسوة وحدها، بل بالعدالة والوعي والاحترام. وما يجري اليوم في بعض الكليات العسكرية العراقية لا يُعد إعداداً لضباط، بل جريمة تُرتكب بحق شباب ضحّوا بحياتهم لأجل خدمة وطنهم. الإصلاح ليس خياراً... بل ضرورة عاجلة.