في وطنٍ أنهكته الفواجع، واعتادت أرضه أن تبتلع الأحلام وتلفظ الأجساد، لم يكن مشهد النيران وهي تلتهم أجساد الأبرياء في الكوت سوى عنوانٍ جديدٍ لفصلٍ مأساويٍ لم يكتبه أحد، بل سطره الإهمال، ووقّعت عليه يد المسؤول الغائب الحاضر، محافظ واسط، الذي جلس بعيدا كمن يتأمل فيلما سينمائيا لا فاجعةً إنسانية.
هو ليس مشهدا من فيلم سريالي، بل فيديو حقيقي صادم، يُظهر المحافظ كأنّه "خطار"، لا مسؤولٌ عن الأرواح التي صعدت إلى بارئها وهي تصرخ بلا مجيب. جلس هناك، متفرّجا، كأنّ واجبه هو التوثيق لا التدخّل، وكأنّ النيران لا تحرق أبناء محافظته بل سكانا لكوكب آخر لا يعنيه شأنهم.
بيانات المحافظ محمد جميل المياحي لم تكن أقل صدمة من المشهد ذاته؛ بياناتٌ مرتجفة، متشنجة، تفضح فقدانه للسيطرة، وتعكس إحساسا دفينا بالذنب، وإن لم ينطق به صراحة. فحين يعجز المسؤول عن الدفاع عن نفسه بالكلمة، فاعلم أن الفشل قد نُقش على جبينه.
الكوت تبكي شهداءها الستين، بين طفلٍ لم يعرف من الدنيا سوى لهبها، وشيخٍ ودّعها دون أن يرى عدالةً أو كرامة. مدينةٌ احترقت على مرأى ومسمع من محافظها، وسط غياب كامل للإجراءات الوقائية، وتقصيرٍ أمني وإداري صارخ، يشي بأن الدولة غائبة أو مغيّبة، وأن الإنسان لا يزال أرخص ما في هذا الوطن.
في حضرة النيران، لم تكن الحرب مع العدو، بل كانت الفاجعة من صنع أيدٍ محلية، تأخرت في القرار، وغابت في الميدان، واكتفت بالنظر من بعيد وسؤالٍ عبثي: “جنگال لو پم؟!”
لكن الجواب الحقيقي كتبه الشهداء بدمائهم: أن المسؤولية لا تُؤدى بالتصريحات، ولا تُقاس بالمسافات، بل تُثبت في ميادين الفعل، حيث سقطت الدولة مرة أخرى… ونجحت النيران في كشف العجز والخذلان.