كتب: المحرر السياسي
في زمن تتعالى فيه شكاوى المواطنين من الفقر وتدهور الخدمات وغياب العدالة الاجتماعية، يطفو إلى السطح ملفٌ حساس يثير الجدل الشعبي ويفتح الباب لتساؤلات عميقة: هل من الحكمة أن تستمر الدولة العراقية في تقديم التبرعات والمساعدات إلى دول أخرى بينما لا تزال نسبة كبيرة من شعبها ترزح تحت خط الفقر؟
أثار قرار مجلس الوزراء بالتبرع بـ50 ألف طن من الحنطة إلى تونس، وتأكيد وزير المالية اللبناني إرسال العراق 320 ألف طن من القمح إلى لبنان، موجة من الغضب الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأوساط الشعبية، حيث يرى كثيرون أن هذه الكميات الضخمة من الحبوب تمثل طوق نجاة لأسر عراقية عديدة ترزح تحت وطأة الجوع، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وغلاء معيشي لا يرحم.
من جهة الدولة، يبدو أن التبرعات جزء من سياسة خارجية مبنية على إعادة تموضع العراق كقوة إقليمية لها ثقلها وتأثيرها في محيطها العربي، خاصة في ضوء تحولات المشهد الإقليمي وتراجع أدوار بعض القوى التقليدية. فالمساعدات – خصوصا الغذائية والنفطية – لا تُقرأ فقط بمعيار المال الخارج، بل بما تعنيه من حضور دبلوماسي وتحالفات محتملة وأدوات نفوذ في ملفات كبرى.
في لبنان، يرتبط القمح بإعادة تشغيل مصفاة الشمال، وهي خطوة ذات أبعاد استراتيجية قد تُفضي إلى توسيع نطاق تصدير النفط العراقي باتجاه البحر المتوسط، ما يفتح منافذ اقتصادية جديدة. أما في تونس، فإن دعم العراق قد يُقرأ كرسالة تضامن مع دولة تعاني ضغوطا اقتصادية وتبحث عن موطئ قدم في معادلة الاستقرار العربي.
غير أن المعضلة الكبرى لا تكمن في النوايا، بل في التوقيت والإدارة. فالشعب العراقي لم يَعُد يقبل بشعارات “الدور الإقليمي” عندما يراها تُترجم على شكل أكياس حنطة تعبر الحدود، بينما هو يبحث عنها في السوق فلا يجدها، أو يشتريها بأسعار مضاعفة. الناس ترى في التبرعات مظهرا من مظاهر الترف السياسي أو الغفلة الرسمية، في وقت يعيش فيه أكثر من 25% من السكان تحت خط الفقر، وتعاني مئات المناطق من تراجع الخدمات الأساسية.
في الحسابات الباردة، لا خطأ في أن تمارس الدولة مسؤوليتها الإقليمية، ولكن الخطأ كل الخطأ أن تغفل عن ترتيب أولوياتها. فبناء الدور الإقليمي يبدأ أولا من الداخل، من رفاه المواطن، من سدّ رمق الجياع في الجنوب والغرب والوسط، من إعطاء الفلاح ذاته الدعم الذي يُمنح لفلاح في دولة أخرى.
إن التبرعات العراقية، رغم أنها قد تحقق مكاسب سياسية أو دبلوماسية، تحتاج إلى إعادة نظر في فلسفة اتخاذ القرار بشأنها. لا بد أن تُربط بأي تحرك دبلوماسي بضمانات استراتيجية حقيقية، لا أن تكون فقط “حسن نية” مجانية. كما أن الواجب الإنساني الحقيقي يبدأ من البيت العراقي، لأن الجائع لا يصنع سياسة، والمحروم لا يبني أمة.
فما قيمة الدولة التي تطعم الآخرين وشعبها ينام على الطوى؟
وما جدوى الكرم خارجيا إن لم يُقابله عدل وإنصاف داخلي؟
السؤال مفتوح، والإجابات لا تأتي من التصريحات، بل من الأفعال.