كتب: المحرر السياسي
من قلب بغداد، انطلقت شحنة أدوية لعلاج مرضى السرطان إلى ليبيا، في خطوة رعتها وزارة الصحة العراقية بالتنسيق مع الخطوط الجوية، على أمل أن تكون بادرة إنسانية تعكس تطور الصناعة الدوائية الوطنية وتعزز علاقات التعاون الإقليمي. لكن بدل أن يُقابل هذا المسعى بالتقدير، تفجّر الجدل في طرابلس، وسرعان ما تحوّلت المبادرة العراقية إلى عاصفة سياسية أطاحت بوزير الصحة الليبي وعدد من كبار المسؤولين.
العراق، الذي أعاد خلال السنوات الأخيرة بناء جزء من قدراته الدوائية الوطنية رغم التحديات، رأى في هذه الشحنة فرصة لتأكيد حضوره في الأسواق الإقليمية، ولترسيخ صورة بلد قادر على أن يكون مصدّرا للدواء لا مستوردا فقط. وقد تم الإعلان رسميا عن تصدير هذه الشحنة، التي ضمت أدوية مخصصة لعلاج الأورام، بعد استيفاء الإجراءات اللوجستية والفنية كافة، وبتنسيق واضح مع الجانب الليبي، بحسب ما أكده القائم بالأعمال العراقي في طرابلس.
لكن المفارقة بدأت عندما تنصّلت هيئة مكافحة السرطان في ليبيا من علمها بالشحنة، بل نفت تماما أن تكون قد وافقت على استيراد أي دواء من العراق، وأصرّت على أن علاجات الأورام في ليبيا لا تأتي إلا من الولايات المتحدة وأوروبا. هنا برز السؤال: إذا لم تكن هيئة مكافحة السرطان من طلبت هذه الأدوية، فمن فعل؟ ومن الذي وقّع؟ وهل هناك من يتعامل مع العراق بشخصية الدولة الرسمية، ثم يتنصل منها تحت ضغط إعلامي أو صراع داخلي؟
لم تكتفِ طرابلس بالنفي، بل سارعت إلى اتخاذ إجراءات عقابية بحق وزير الصحة وعدد من المسؤولين، بحجة أن الاستيراد تم خارج مسارات العطاء العام، رغم أن الوزارة نفسها أقرت لاحقا بوجود الموافقات من هيئة الرقابة الإدارية الليبية، وأن الشحنة مرت بسلسلة من الإجراءات الرسمية.
بالنسبة للعراق، القضية لا تتعلق فقط بتوريد دواء، بل بمصداقية دولة، وبرهان على أن صناعتها الدوائية بدأت تستعيد عافيتها. ومن غير المقبول أن يُستخدم اسم العراق وسمعة دوائه في سجال داخلي ليبي لا ناقة لبغداد فيه ولا جمل، أو أن يُشكك بدوافع المبادرة العراقية لأغراض سياسية أو إعلامية.
إذا كانت هناك مشاكل داخل ليبيا في توزيع الصلاحيات أو في فساد إداري، فهذا لا ينبغي أن يُحمّل على حساب دولة جاءت لتقدم العون، لا لتزرع الشك.
ومع أن صناعة الدواء في العراق لا تخضع لرقابة صارمة، الا أن ما تم تصديره إلى ليبيا هو نتاج لمعامل محلية مرخّصة، تطمح أن تصل إلى الأسواق العربية والإفريقية، في وقتٍ يتحوّل فيه العراق من ساحة مستهلكة إلى مركز إنتاج وتصدير.
في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة الحقيقية موجهة إلى الداخل الليبي: هل فعلا تمت الصفقة خارج المسارات القانونية؟ وإن صح ذلك، فلماذا لم يُعلن عن ذلك من قبل؟ وهل كان المطلوب من العراق أن يتحقق من الخلافات الداخلية بين الجهات الليبية قبل أن يُرسل شحنة دواء؟